سرد الناصري، صاحب كتاب "الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى"، وقائع السجل الحافل لمواجع "المغرب الأقصى"، وسجل و"زمم" في "كناشه" دقائق الأخبار، وكأنه صحافي زمانه الحريص على الالتزام بالخيط الفاصل ما بين الخبر والتعليق، تاركا لهواة الحوليات التاريخية هامش الاستنتاج واستخلاص الخلاصات والعبر.
وكان بديهيا أن يمتنع القارئ "العايق والنبيه" عن تحميل كتاب الناصري أكثر مما يحتمل، خصوصا على مستوى استشراف مستقبل "المغرب الأقصى" وحاضر "مغرب الإقصاء"، الذي لم يعد في حاجة إلى استقصاء وسبر أغورٍ دقيق لما آلت إليه أحوال البلاد والعباد في مغربنا العزيز.
وفي أيامنا الراهنة هاته، وبمرجعية الناصري أو بدونها، كانت كلمة "الإقصاء" الأكثر ترددا على الألسنة، لا لأن تنافسا كرويا إفريقيا أبدعها لأول مرة، بل لكونها كادت أن تتحول إلى جلد ثان كان يلتصق بالإنسان المغربي من المهد إلى اللحد، إلى أن جاءت نكسة جديدة للمنتخب الكروي المغربي للقدم، لتزكي واقعا قائما تعرض، طويلا، للتنويم الاصطناعي.
وكانت هبة ريح إفريقية كافية لكي تتسع عدسة المجهر المغربي، ليدرك أن الإقصاء المزمن في كرة القدم مجرد قطرة في بحر الإقصاءات المتناسلة التي لم تنفع معها حيلة "مطاردة الساحرات"، حيث "مرة مرة، تتم التضحية بشي وحدين درا للرماد في العيون"، وتتم هذه الحيلة عبر تجميع الغضب الشعبي كاملا، وصبه في قناة تنصيب ناخب أجنبي.
فمن نَصَّب هذا المدرب الأجنبي؟ وهل يوجد في المغرب مدربون أجانب في الكرة فقط ؟ فالمغرب يعج بالمدربين الأجانب في كل المجالات.
ثم كيف يحولون نخبة من اللاعبين إلى أكباش فداء دون غيرهم، بالرغم من كل ما يمكن أن يقال عن مستوى أدائهم على رقعة الملاعب الرياضية، أو مدى حفظهم للنشيد الوطني، في عملية استغفال جماعية تلهينا وتنسينا التساؤل حول مستوى أداء "المسؤولين" عن القطاعات الحيوية التي ترهن حياة ومعيش وحرية المواطن المقصي أصلا من أي قرار في مغرب الإقصاء الذي ما دخل منافسة إلا وخسرها بنجاح قل نظيره.
وما وضعت المنظمات الدولية ترتيبا لمستوى النمو أو مقدار الالتزام بالحريات العامة وحرية الصحافة والإعلام والتعبير إلا ووضعته في أسفل القائمة، حيث أظهر مغرب الإقصاء أنه أصبح عاجزا عن الاحتفاظ بمواقعه المتأخرة في الترتيب العالمي، حيث سيتم إقصاؤه منها.
بل، على العكس من ذلك، استفحلت أموره وأوضاعه، وسُحبت منه النقط تلو النقط، حتى كاد يتحول إلى شبح عصي على الترتيب والتصنيف.
وما الإقصاء في كافة أصناف الرياضات سوى الجزء الظاهر من جبل الثلج الذي اعتاد "التيتانيك" المغربي الاصطدام به كل مرة، مادام ربابنة السفينة لا يحسنون القيادة، بل لا يعرفونها أصلا، لا في الظلام الدامس ولا في وضح النهار، غير عابئين بمصير من ألزمتهم الأقدار بامتطائها، ولو أنهم واثقون من أنها تبحر نحو وجهة مجهولة وبدون بوصلة ودون قوارب نجاة.
فماذا يضير الفريق أن يرتدي قبعة المحلل الرياضي يشرح جسد الهزائم والنكسات، ويتلهى بالهزيمة النكراء، بعد أن خططوا له للتلهي بالنصر المبين، مادام مقصيا من الحق في إحراز نصره بيده، لا بيد من يعتبرون النصر والهزيمة سيان، مادامتا لن تغيرا شيئا من ملامح مغرب الإقصاء.
فلا خير في بلد لا يقاوم الذين أقصوا ثقافته وهويته وحريته. أما عن المنتخب الوطني، فقد قال لنا المسؤولون عن كرة القدم إنه سوف يذهب بعيدا. وبالفعل، فقد ذهب بعيدا، وبلا عودة. ...
أقرأ المزيد
4
أحمد السنوسي
حين كان العقيد معمر القذافي في زمن مضى يملك بعض الوشائج مع عروبة الصمود والتصدي (للشعوب بطبيعة الحال)، وهو ما تبين اليوم بشكل واضح وفاضح، قبل أن ينبذ هذه العروبة كجلد قديم، شوشت عليه الآلة الدعائية الإسرائيلية. وقد مرت مياه كثيرة في "النهر الصناعي العظيم" ولم يعد القذافي في حاجة إلى أحد، من أجل نشر الغث والسمين من أخباره، التي تتسابق صحف العالم على الترويج لها، ليس في صدارة صفحاتها السياسية، بل ضمن المساحات المخصصة للطرائف والنوادر المفروض فيها أن تسلي القارئ بعد استهلاكه لزخم أخبار أكثر جدية ورصانة.
وهو نفس المصير الذي كان يلحق بأقوال وأفعال عتاة افريقيا، من قبيل جان بيديل بوكاسا، الذي نصب نفسه امبراطورا على جمهورية افريقيا الوسطى المكلومة والجائعة إلى الخبز والحرية، وكذا عيدي أمين دادا، الذي حول أوغندا إلى حلبة للملاكمة يمارس فيها رياضته المفضلة إلى أن سقط بالضربة القاضية فحملوه إلى المنفى السعودي، كما أصبح مصير الديكتاتور بن علي، إيذانا بقرب حلول 'عهد الهاربين' من الدكتاتوريين والدمويين من الحكام.
وقد كان أولئك الحكام من رواد الحلم "البونابارتي" (نسبة إلى الإمبراطور نابوليون بونابرت)، وهو نفس الهوس الذي أوحى للعقيد القذافي بأن ينصب نفسه "ملكا لملوك افريقيا"، بعد أن اشترى بمال الشعب الليبي ولاء بعض القبائل الافريقية، كما اشترى في الماضي قبول أحد رؤساء افريقيا بالتحول إلى الإسلام، ولكن هذا الزعيم قبل المبدأ والمال، ورفض الختان، ثم سرعان ما عاد مهرولا إلى ديانته الأصلية.
كنت دائما أقول إن أكبر منافس للفنانين الساخرين هو هذا الصنف من الحكام المستبدين، لكنهم عكس مبدعي السخرية، لا يقصدون إسعاد الجماهير وإضحاكها، بل يمعنون في إبكائها بدموع الدم والحسرة والشقاء، وما يحدث في سورية واليمن، والدور آت على الشعوب الأخرى، أكبر دليل على ذلك، فيما يضحك خصوم الشعوب منها ويصلون عليها صلاة الغائب، كما فعل الرئيس الفرنسي ساركوزي في خطبة نادرة وغير مسبوقة ألقاها في جامعة دكار، أعلن فيها يأسه من قدرة الأفارقة على مواكبة العصر وقيمه، وهو نفس الخطاب الذي تبناه المستعمرون في بداية القرن العشرين، حين أكدوا أن احتلالهم القارة السمراء بمثابة الوصفة السحرية لشعوب أدمنت التخلف.
وهو نفس الخطاب، أيضا، الذي تبناه الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، حين أعلن على الملأ أن الديمقراطية لا تصلح لشعوب افريقيا والشعوب العربية، وهو ما يعني ضمنيا أن هذا الابن الروحي للجنرال شارل ديغول يؤمن بأن شعوبنا تستحق الحكام المعتوهين الذين يدبرون شؤونهم ويعيثون فسادا واستبدادا في الأرض والبشر، مادام أنه ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن.
وحينما اجتمعت قمة الثماني بمدينة دوفيل الفرنسية المخصصة لـ"الربيع العربي"، حاول رؤساؤها النأي عن ذلك المنطق الكولونيالي، على مستوى النوايا على الأقل، فأكدوا أن الشعوب لا تستحق أن تحكم من قبل مستبدين تطاولوا على الشرعية وفقدوا ما تبقى منها (إن كانت هناك شرعية أصلا)، انطلاقا من أن المسؤول الذي يأمر بإطلاق النار على شعبه يفقد شرعيته، حسب تعبير رئيس الديبلوماسية الفرنسية ألان جوبيه، بل إن بعض حلفاء العقيد القذافي وقعوا على بيان دوفيل الختامي، الذي يقول صراحة: "القذافي فقد شرعيته، وبالتالي عليه أن يرحل"، حيث قالت الخارجية الروسية إنه "لا مكان للقذافي في ليبيا حرة وديمقراطية، لذا عليه أن يرحل".
هكذا سيكون مصير الحكام الذين نصبوا شعوبهم أعداء لهم ووثقوا في الاستعمار.
ولعل من مكرمات الربيع العربي أن صحح المنطق التحكمي المعادي للشعوب المقهورة، وحل محله اعتراف علني بحقها في الحياة والكرامة والحرية والحكامة والديمقراطية، وسارع رؤساء مجموعة الثماني إلى التعهد بضخ الأموال دعما للدول العربية التي تختار الديمقراطية ومساندة لـتطلعات الربيع العربي، مع الإشادة بالدور الذي لعبه الشباب والنساء في هذه الحركات التغييرية التي تكرس القيم المشتركة، كالحرية والديمقراطية.
لن نكتفي بتسجيل النوايا مادامت دول الغرب قد عودتنا على الخطاب المزدوج، والتضحية بالشعوب خدمة لمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية.
لكن واقع الحال يقول إن الخطاب الغربي تحت ضغط الشارع والربيع العربي دخل في مرحلة إعادة الانتشار، والاحتكام إلى منطق جديد يفيد بأن مناصرة قضايا الشعوب العادلة حل لا مفر منه ولا محيد عنه، بعد أن أصبح فساد الحاكمين الظالمين لا يطيقه الحلفاء و الأصدقاء والخصوم على حد سواء. ...
أقرأ المزيد
5
حدث هذا ساعات قبل الإعلان الرسمي عن "خلجنة" المغرب والأردن، حيث ان صحافيا اتصل بوزير مغربي يسأله عن صحة ما يروج من أخبار حول الانضمام المحتمل للمغرب إلى مجلس التعاون الخليجي (هذا المجلس الذي يضم إمارات لا تتعاون حتى في ما بينها، بقدر ما تتعاون مع مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية). فكاد الوزير، الذي تتمثل مهمته الأولى في الوصاية على الأخبار والإعلام، أن يختنق من فرط الضحك، جراء هذا الخبر العبثي، الذي يستهتر بمعطيات التاريخ والجغرافيا.
الوزير كان آخر من يعلم، كما جرت العادة بذلك في أمور وقضايا أخرى أكثر خطورة، وكذا أعضاء الحكومة المغربية، باعتراف بعضهم، حيث لم يكونوا في الصورة بالنسبة إلى حدث من العيار الثقيل، حتى جاء الخبر اليقين من الرياض، حيث التأمت قمة دول مجلس "التهاون" الخليجي، وأصدرت بيانا يرحب بانضمام الأردن، بطلب منها، ويدعو المغرب إلى الالتحاق، على عجل، بالركب الخليجي الذي انطلق قطاره منذ ثلاثين عاما، لكنه لم يصل إلى أية محطة، وفشل في كل امتحانات الديمقراطية ومواد حقوق الإنسان.
ذلك ان إمارات الخليج كانت ولاتزال مجرد ديكتاتوريات نفطية تنعم برضا الغرب بقيادة العم سام. وقد عرفت هذه الإمارات والسلطنات عجزا مزمنا عن إطلاق عملة نقدية خليجية مشتركة، على شاكلة 'يورو' دول الاتحاد الأوروبي، وكذا الفشل في تطويق معضلة بطالة الشباب الخليجي، التي تكاد نسبتها تفوق مثيلتها في المغرب والأردن.
ولم يتوقف القطار الخليجي في محطات "الأشقاء" العرب إلا مرة واحدة، حين تم ضم سورية ومصر إلى مجلس التعاون الخليجي لشهور عديدة فقط، ليتم بعدها التخلص من عبء الإخوة في دمشق والقاهرة، وإخراجهم من النادي الخليجي، بعد أن استنفد الضم الأغراض المنشودة منه، وهي تطويق تداعيات مرحلة ما بعد 'تحرير' الكويت، ومكافأة السوريين والمصريين على مساندتهم لأمريكا وحلفائها في حربها ضد الشعب العراقي.
فأية فكرة خالجت الخليجيين من أجل ضم بلد كالمغرب، لا يملك من النفط والغاز إلا الألغاز، ولا يريد شبابه، اليوم، سوى الانصهار بشجاعة في منظومة ديمقراطية حقيقية أساسها العدالة والحكامة المنزهة عن الفساد والمفسدين، والمنبثقة من الإرادة الشعبية وحدها.
تطلع ينظر إليه ملوك الخليج والأمراء والشيوخ بعين الحذر والغضب والسخط، بعد أن استكثروا على المنطقة المغاربية أن تحمل مشعل ثورة التحرير العربية الشاملة، فتعاملوا معها على أنها مصابة بـوباء الديمقراطية والحرية الذي لا علاج له، حسب تصورهم، سوى ضخ أموال البترودولار في صناديق "الجياع" المنسيين على ضفاف المتوسط والأطلسي، الذين لا يتذكر أثرياء الخليج وجودهم إلا وهو مقرون بالليالي الملاح ومنتجعات النقاهة والاستشفاء، حيث جمال البلدان مبهر وساحر والطقس معتدل، على امتداد كل فصول السنة.
وبعيدا عن عوالم شهرزاد، وكلامها المباح وغير المباح، ترتبط دول مجلس التعاون الخليجي باتفاقية تلزم أعضاءه بالمشاركة في 'المجهود' العسكري ضد أعداء أنظمة الخليج (وبطبيعة الحال، ليس ضد أعداء فلسطين).
ومادام المغرب يملك خبرة محترمة، على هذا المستوى، فإن سم الدعوة بالانضمام أكثر من عسلها. وبناء على ذلك، فإن المغرب سيجد نفسه، ربما، وفي لمح البصر، مورطا في الحروب التي تطبخ على نار هادئة في المنطقة، في مطابخ الولايات المتحدة وإسرائيل، ضد دولة إيران، مثلا. ولا شك أن الشق العسكري حكم منطق الخليجيين، وهم يرحبون بالمغرب، من أجل خوض الحروب بالوكالة عنهم. هذه الدعوة لم تكن كرما حاتميا ولا ترفا أو نزوة عابرة، فالأردن طلب الانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي منذ 15 سنة خلت، ولم يعر أحد طلبه أي اهتمام. وقبله، تقدم اليمن بطلب الانضمام إلى المجلس بحكم التصاقه الجغرافي بدول مجلس التعاون، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها إسرائيل، أرادتا أن يظل اليمن خارج التاريخ. فيما المغرب، الذي لا تفصله عن الضفاف الأوروبية سوى 14 كيلومترا.
ويرتبط باتفاقيات مع دول الاتحاد الأوروبي، هي أقل من الانضمام وأكثر من الشراكة، لم يتقدم، أبدا، بأي طلب في اتجاه الالتحاق بـالفردوس الخليجي، فتاريخه يشهد على أنه اعتبر دول افريقيا عمقه الاستراتيجي وبيته الطبيعي، كما أن شعوبه حلمت، منذ مدة طويلة، بالتكتل والتكامل المغاربي، نظرا لوحدة المصير والهموم المتراكمة والإحباطات التي توارثتها الأجيال، لكنها لم تيأس من فرج قريب سيصنعه شباب ميادين التحرير لا محالة، القادرون على فك ألغاز أوطانهم، وليسوا في حاجة إلى مزيد من الألغاز، سواء كان مصدرها مماليك وإمارات الخليج، أو دسائس القطب الأمريكي الإسرائيلي، الذي يعربد كما يشاء، في بلدان الخليج وما جاورها إلى حين، وهم جميعا يتملكهم هاجس مشترك يتمثل في تطويق الثورات الشعبية والعمل على إجهاضــــها، أو على الأقل، تأجيلها، على الرغم من أن موسم حصاد رؤوس الفســـاد حان، وشمخت سنابله في كل شوارع وساحات الأنظمة الديكتـــاتورية الخليجية وغيرها، مع اعتزازي وتقديري لكفاحات ونضالات شــعوب منطقة الخليج الثائرة. ...
أقرأ المزيد
21
من الطرائف المضحكة المبكية أن مؤسسة حكومية اتفقت مع المجلس الاستشاري لحقوق الانسان سابقا (و سابقا هاته تعود على المجلس وحقوق الإنسان معا) على تحويل المعتقلات السرية السابقة القائمة على امتداد أربعة عقود إلى مزارات ومتاحف وأماكن لحفظ الذاكرة المغربية الموشومة بالثقل الرمزي لمقابر الأحياء في تازمامارت وأكدر وقلعة مكونة ودرب مولاي الشريف واللائحة طويلة، وما خفي كان أعظم، خصوصا بعد أن فكت عقدة لسان المغاربة، وأصبح الخوف يخاف على نفسه.
وكان المغاربة يتحدثون عن هذه المعتقلات همسا إلى أن انفجرت فضيحتها عالميا، وتم تصنيفها في خانة أكبر المعسكرات الحاطة من كرامة الإنسان في النصف الثاني من القرن العشرين، وأدرجتها المنظمات الحقوقية الدولية ضمن لائحة الوصمات المخجلة على جبين الإنسانية جمعاء، وسارعت السلطات إلى إغلاقها بعد أن كانت تنفي، تماما، وجودها، بل إنها أكدت، يوما ما أن قلعة مكونة، التي كانت تأوي معتقلا رهيبا، لا تنبت فيها سوى الورود. فهل نبتت هذه الورود بعدما سقتها دماء المناضلين الأحياء والشهداء؟
لكن هذه السلطات، التي محت شامات المعتقلات في المناطق النائية المحروسة، أبدعت وشما جديدا على مرمى حجر من العاصمة الرباط. ويتعلق الأمر بمعتقل تمارة، أو "تمارانامو"، الذي ذاع صيته عالميا، بعد أن تحول، لفترة من الفترات، إلى ملحق لمعتقل غوانتنامو، كما أوردت ذلك الصحافة الدولية التي كشفت أن الطائرات الأمريكية كانت تحمل معتقلين من غوانتنامو إلى بعض البلدان، ومنها المغرب، بعدما استعصى استنطاق هؤلاء المعتقلين على المحققين الأمريكيين، لعل 'الخبراء' المغاربة ينجحون في إنطاق الأبكم.
وقد أثير، خلال الأيام الماضية، موضوع معتقل تمارة، في سابقة فريدة من نوعها من سوابق البرلمان المغربي، الذي هو الآخر معقتل لإرادة الشعب، وقد طالب فريق برلماني بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق حول ذلك المعتقل، إلا أن العجيب هو أن باقي الفرق قد رفضت ذلك جملة وتفصيلا.
ما فشل فيه البرلمان، الفاشل أصلا، حاولت حركة شباب 20 فبراير إنجاحه، عبر تنظيم "نزهة احتجاجية" إلى غابة تمارة، حيث يوجد المعتقل سيئ الذكر بين الأدغال، وذلك يوم الأحد 15 ايار/مايو، فحالت الآلة القمعية، التي استنفرت كل قواها، دون وصول المحتجين، وذلك بمطاردتهم في شوارع العاصمة الرباط ودروبها، والتنكيل الجسدي بالشباب والحقوقيين والصحافيين وعائلات المعتقلين وكل الفعاليات التي حاولت أن تشعل شمعة في ظلام المعتقل الرهيب، الذي تقول السلطات إنه مجرد مركز إداري تابع لجهة أمنية.
لكنها لم تذهب إلى حد القول بأنه مشتل لزراعة الورود والأزهار وإنتاج العطور، فيما يؤكد منتدى لحقوق الإنسان أن أغلب حالات الاختطاف والتعذيب تتم في معتقل تمارة، وأنه خلال عام 2010 تم رصد 19 حالة اختطاف، في اتجاه "تمارانامو".
والخوف كل الخوف هو أن تقوم السلطات، بفعل ضغط الشارع والمنظمات الحقوقية الوطنية والدولية، بإغلاق معتقل تمارة، وتعويضه بمعتقلات سرية جديدة مبثوثة على طول وعرض الوطن، في إطار "جهوية متقدمة"، سيتم تجريبها على المستوى القمعي، فيما هي وضعت أساسا، وعلى ما يبدو لضمان التنمية المتوازنة والمتضامنة لكل الجهات، سواء تعلق الأمر بجهات "المغرب النافع" (النافع لمن؟) أو المغرب غير النافع، حسب التصنيف الذي وضعه عراب الاستعمار الفرنسي الجنرال ليوطي.
لكن ليوطي غادر، وظل تصنيفه قائما، إلا في المجال الزجري، حيث ستتساوى كل الجهات، قمعيا، وهو المخطط الذي ستفشله، حتما، نضالات حركة شباب 20 فبراير وكل المغاربة، إلى أن تتوقف آلة الاستبداد والفساد والقمع عن إنتاج المزيد من الشطط والظلم في استعمال السلطة، وتنتهي عهود الاختطاف القسري والتعذيب ومصادرة الحق المشروع في الجهر بالرأي، بعيدا عن فزاعات المعتقلات السرية والعلنية، وقريبا من عدالة لا تغمض عيناها عما يجري حولها من تجاوزات مجحفة عرفتها ما أطلقوا عليه "سنوات الرصاص"، التي تم الإعلان رسميا عن نهايتها، لكن رصاصها عصي على الذوبان، وعصي على أن تتطابق الحقيقة مع الإنصاف، والشعارات مع ما يقع فوق الأرض وتحتها. ...
أقرأ المزيد
8
من حق المجتمع المدني والتنسيقيات والفعاليات الشبابية المغربية والفنانين والمثقفين وكل المواطنين أن يعرفوا وأن يطرحوا التساؤلات حول مصادر التمويل وحجم الميزانية العملاقة المخصصة لمهرجان موازين بالرباط، و أتعاب النجوم الضيوف، وهوية الوسطاء وعمولاتهم، وتبعية الوكالات والشركات التي احتكر أصحابها تنظيم هذا المهرجان الذي يسوق لـإيقاعات العالم، منذ دورته الأولى، وإلى اليوم.
وكان الجواب على هذه التساؤلات والاحتجاجات السلمية، هو الهراوات التي تهاطلت ضرباتها الموجعة على رؤوس كل من سولت له نفسه أن ينتقد أو يحتج ضد طريقة تسيير وتنظيم وتمويل هذا المهرجان وصفقاته، وليس ضد إقامة مهرجان ثقافي أو فني، أو الانفتاح على موسيقى الشعوب والثقافة الكونية.
إنها أسئلة تبدو عادية وروتينية في مجتمعات أخرى، اعتمدت مبدأ الشفافية ووضعت حدودا معلومة بين بيت المال العام والمال الخاص، ومنعت أي زواج غير شرعي بينهما. كما نبذت أي تداخل أو التباس بين المال وسلطة القرار.
وبديهي أن المهرجانات الموسيقية والفنية والمسرحية والسينمائية مطلوبة في كل المجتمعات والثقافات، بل إن حضورها مكثف في الدول الديمقراطية، حيث يد الدولة مرفوعة عنها، وتنظيمها موكول إلى القطاع الخاص، أو للمجالس المنتخبة والبلديات التي ترصد ميزانيات يمكن لأول مواطن أو دافع ضرائب أن يطلع على أدق تفاصيلها. وحتى وزارات الثقافة في البلدان الديمقراطية، التي تنظم بعض المهرجانات المسرحية وغيرها، فإنها تنظم ذلك بكل شفافية ووضوح.
وقد شَذّ منظمو موازين عن هذه القاعدة الذهبية، وأعلنوا تشبثهم بسرية التعاقد مع النجوم، وسرية الميزانية المرصودة، وكأن الأمر يتعلق بأسرار الدولة، التي لا يمكن لها أن تستباح، حين يتعلق الأمر بأسرار الدفاع الوطني والخطط الاستراتيجية، للدفاع عن مصالح الشعب. بينما اختار منظمو موازين، في مواجهة الأسئلة الشعبية المشروعة، استراتيجية كروية تفيد بأن أحسن طريقة للدفاع هي الهجوم، متناسين أن لهذه الخطة، أيضا، مساوئ، فاعتبروا، من باب الاختزال الفكري، أن كل من احتج على تبذير المال العام في موازين، فهو خصم عنيد للفن والثقافة والحرية والانفتاح على العالم. وهذا هروب إلى الأمام من الأسئلة الملحة التي يطرحها الناس، وهذا من حقهم.
لكن، أليست الحقائق عنيدة، أيضا؟ ذلك أن أسباب نزول مهرجان موازين ليست فنية، ولا داعمة للثقافة والانفتاح على الآخر، وهي أسباب ليست بتلك البراءة التي يريد المنظمون إيهامنا بها، إذ أنهم اعتقدوا أن مهرجانهم يضرب عصفورين بحجر واحد: فهو ينتصب كجدار برلين، مدافعا عن قيم الحداثة والانفتاح والحرية، وهو من هذه القيم براء، لأنه ضدها في الأصل، كما يرمي "البهرجان" إلى إنجاح خطة "ماركوتينغ" سياسية موجهة إلى الاستهلاك العالمي.
فأهداف المهرجان سياسية، وليست فنية أو ثقافية. ويحاول المنظمون أن يبيعوا للأجانب صورة مغرب مستقر، مع العلم أن الأزمة هي المستقرة والثابتة، متناسين أن عصر الإعلام الإلكتروني، بمواقعه التواصلية الاجتماعية، وسرعة أدائه، قادر على كشف عورات الدول والأنظمة، فلماذا كل هذا التبذير إذا كانت نتائجه غير مضمونة؟
وهنا، يجيب منظمو موازين بأن المهرجان، سيخلق، في نهاية المطاف، مناصب شغل في الرباط العاصمة، ويحفز الأنشطة التجارية وقطاع الخدمات، متجاهلين أن هذا النوع من المعجزات مستحيل، ولا يحدث في أيام معدودات، هي عمر هذا المهرجان الموسمي، وإلا لكان جديرا بالمنظمين أن يقيموا مهرجانهم على طول وعرض السنة، كل يوم وحين، وفي كل المدن والبلدات المغربية المنكوبة اقتصاديا، اليائسة اجتماعيا، والتي يتطلع سكانها إلى أن يعيش المغرب، ليس فقط على إيقاعات العالم، الذي هو شعار مهرجان موازين، بل أن يواكب المغرب إيقاعات العالم في الحرية والتحرر والانعتاق.
وكان حريا بأصحاب مهرجان موازين وإيقاعاته العالمية أن يعرفوا أن الوقت حان لكي يعيش المغرب على إيقاعات العالم في تجذير الحريات وضمان حقوق المواطنة والتصدي لإيقاعات الفساد ورقصاته القاتلة، هذا الفساد الذي عم البر والبحر والأجواء بشهادة تقارير دولية.
والخلاصة أن صورة المغرب في الخارج ليست في حاجة إلى الموازين المختلة، ولا للبهرجة الموسمية، التي سرعان ما تنطفئ أضواؤها، بل هي في حاجة إلى من يقرأ نبض الشارع المغربي، ويسير على إيقاعه، لا أن يرقص على إيقاعات الآخرين. ...
أقرأ المزيد
2
منذ ثلاثين سنة خلت، لم يكن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد في حاجة لدعم خارجي أو فيالق مرتزقة من كل الآفاق ليدك (دكا دكا) أركان مدينة 'حماة' في عملية تقتيل جماعي لم تستثن أحدا.
ومنذ أيام، راجت أنباء عن استقواء آلة القمع السورية بمرتزقة من الخارج، بهدف إحباط الثورة الوليدة، نفاها مسؤول رسمي في دمشق جملة وتفصيلا، مؤكدا أن بلاده في غير حاجة إلى أحد من أجل تثبيت النظام.
ولعله صادق في ما يقول، إذ إن دولة البعث السورية وديمقراطيتها الصورية، منذ إحكام سيطرتها على الروابي الشامية، في ربيع عام 1963، أرست آلية ردع وجزر وإحصاء للأنفاس يندر لها المثيل، بل إن سورية البعث كانت دائما، مرشحة لتصدير إنتاجها ونموذجها القمعي، ولم تكن يوما في حاجة إلى استيراد مرتزقة من الخارج. وهو ما يحسب لهذا النظام الذي لا يستقوي على شعبه بكتائب الموت الأجنبية، بل يتولى الأمر بنفسه!
بل إن البعث يفتخر بأنه نجح في إيقاف مسلسل الانقلابات المتكررة كل ستة أشهر، وكل سنة، في بلد لم يحسن تدبير استقلاله الذي تم في ربيع 1946. هذا الربيع الذي لم يزهر حقوقا وحرية للشعب السوري العزيز.
فمع البعث، ابتليت سورية بالأعراض الجانبية للاستبداد، من هيمنة نظام الحزب الوحيد، ونبذ التعددية، والحق في الاختلاف، والتوجه نحو إرساء نظام الجمهورية الملكية أو الجمهلكية، إذا شئتم، بطقوسه السلطانية وقوانينه غير المكتوبة، التي فرضت توريث الحكم للأبناء.
وعلى هذا المستوى، لم تعد سورية مؤهلة لإعطاء دروس لأحد في مجال الحكامة، لكن نظامها تذرع بثقل واقع جيوستراتيجي مزمن، يضع البلاد، يوميا، تحت المناظير المكبرة للمخابرات الأمريكية، والكيان الصهيوني الدخيل، الذي زرع مسمار جحا في الجسد السوري، عبر الاستيلاء الغاشم على هضبة الجولان السورية واحتلالها بقوة الحديد والنار.
ولا أحد يمكنه ألا يساند ويتضامن مع سورية في استرداد جولانها.
لكن، أصبح على الشعوب أن تؤدي الثمن الغالي للتموقع الجغرافي أو التاريخي لبلدانها. وليس من المعقول أن يلجأ النظام السوري إلى خنق أنفاس شعبه وسلبه حريته وكرامته، بمبرر الخطر الخارجي. فكلما كنا أمام سورية الحريات والتعدد والاختلاف وحق الشعب في من سيحكمه، واجه السوريون الاحتلال الصهيوني أكثر من اليوم، ولاستعادوا الجولان ودعموا المقاومة في فلسطين ولبنان.
كان على بشار الأسد أن يستجيب لتطلعات الشعب السوري، ويراهن على المستقبل. لكنه، مع الأسف، ربما استجاب لأعداء الحرية من حرسه القديم والجديد، ثم، هل تصلح 'المؤامرة الخارجية'، دائما، لتكون شماعة ومشجبا ومحرابا وثنيا يقدم فيه الشعب وحريته قربانا، بدعوى العدوان الخارجي، مرة أخرى؟
فعكس أنظمة الاستبداد العربي، عمل الاحتلال الإسرائيلي على تقديم نفسه للعالم على أنه 'واحة للديمقراطية' في صحراء الاستبداد العربي. والكل يعرف أن 'ديمقراطية' إسرائيل، هذه المستوطنة الكبيرة التي زرعها الغرب ظلما وعدوانا على أرض فلسطين السليبة، ويرعاها هذا الغرب بزعامة أمريكا وجل الأنظمة العربية، هي ديمقراطية عرقية لا تصلح إلا للإسرائيليين من أصل يهودي.
أما الفلسطينيون أصحاب الأرض، الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، فهم قوم من الدرجة الدنيا، يتم التعامل معهم بعنصرية وكراهية، وينبغي الإلقاء بهم، بعيدا، خارج فلسطين، أو مواصلة إبادتهم داخلها، كما يقول الصهاينة.
لقد أقنعت إسرائيل العالم المنافق بأن المستبدين العرب ليسوا محاورين لائقين ولا محترمين للمجتمع الدولي. ومن ثم، استعملت إسرائيل الديكتاتورية العربية وطغاتها وقودا يخدم خططها التوسعية، وصك غفران لمحو آثار عدوانها الهمجي المستمر على الشعب الفلسطيني وباقي الشعوب العربية، فيما فتحت قنوات حوار سرية علنية مع عواصم الاستبداد من الخليج إلى المحيط، وضعت حدودا فاصلة تفرق بين الحكام والشعوب.
ولعلها، هذه المرة، محقة في ذلك، فالجماهير العربية كلها تخندقت ضد إسرائيل، فيما حكامها منغمسون في غزل رقيق مع الصهاينة الذين يتداولون على العدوان بأقنعة سياسية مختلفة ظاهريا، تخفي نفس الوجه البشع. فأين هو الخطر الصهيوني على هذه الأنظمة الاستبدادية؟
إن حمام الدم المستمر في سورية دليل ناصع على مدى الحب الذي يكنه البعث للشعب السوري. فإلى متى ستستمر هذه المجازر ضد شعب أعزل، سلاحه إيمانه العميق بالحرية والكرامة.
فمنذ أن ظهرت البوادر الأولى لربيع الثورة السورية، جاء الرئيس بشار الأسد إلى مجلس الشعب مسبوقا بابتسامة عريضة وارتياح الواثق من أدواته وأهدافه، وتحدث طويلا، من دون أن يقول شيئا، وضيع فرصة تاريخية، وسط تصفيقات الممثلين المفترضين للأمة، حيث نهض أحدهم وخاطب الرئيس بعينين دامعتين وقال: إنك سيدي الرئيس تستحق أن تحكم العالم كله، وليس سورية فقط.
وتصاعد التهليل والتكبير داخل مجلس 'الشعب' فيما نظرات النواب والنائبات عسى نائبات الدهر عنا تزول تقطر حبا وولها بشخص الرئيس، قد يعجز ابن حزم ومؤلفه طوق الحمامة عن الإلمام بكل المشاعر الجياشة التي يفرزها هذا الغرام الجماعي.
ولاحظوا معي أن معمر القذافي، في خطبته "الزنقاوية" ركز بدوره على المنحى الغرامي والعشق، حين اختزل وجود الشعب في محبة الحاكم وقال: من لا يحب القذافي لا يستحق أن يعيش.
لقد مكنت تركيبة حزب البعث ومجالات تحركاته، أمنيا، وولاءاته الموسمية التي لا تفرق بين العدو والصديق، من أن يتمكن النظام من الحصول على حصة الأسد في القرار السوري، الذي رهن حاضر ومستقبل المواطن السوري المعروف بشهامته وعمق حسه الحضاري، وميل شبابه للتحصيل والمعرفة والذوق الرفيع، لكن حصة الأسد كانت أكبر من أن تحتضن تطلعات الشعب في الحرية والانعتاق، في محيط عربي تهاوت فيه قلاع الاستبداد، الواحدة بعد الأخرى، فيما يرتكب الأسد الخطأ والخطيئة الأخيرة، حين يعتقد بأن حزب البعث سيحكم إلى يوم البعث. ...
أقرأ المزيد
2
يحكي الفيلم البريطاني، الذي حصد أهم الجوائز السينمائية لهذا العام "خطاب الملك" قصة مرشح للخلافة عَيِيّ اللسان، ترفض الكلمات بعناد أن تصدر من فمه، فاحتار الشعب والأطباء في أمره، إلى أن نجح أخيرا في اكتساب ملكة الفصاحة، فكانت كلماته الأولى، التي نطق بها، عبارة عن تعابير المواساة لشعبه، الذي يعاني من أهوال الحرب، وقدم نفسه كجندي يقف في الصفوف الأمامية لنضالات أمته. والحديث هنا عن فيلم سينمائي لا غير.
لو قُدِّر لصناعة السينما أن تتعامل مع "خطاب جلالة الرئيس"، لما كان لها من مرجعية سوى فيلم "الديكتاتور" لشابلن، حيث الفصاحة شجرة تخفي غابة مرعبة من ألفاظ الشتائم والقدح في الشعب، وترسانة هائلة من تحريض أبناء الأمة الواحدة بعضهم ضد بعض، وإشعال النعرات النائمة تحت الرماد.
أما إذا عجزت فصاحة "جلالة الرئيس" عن حشد الولاء، فإن أجهزة مخابراته تتجند من أجل شراء بيعة نفدت صلاحيتها منذ أزمنة سحيقة، وحشد صغار موظفي الأجهزة كالبهائم في الساحات العمومية، من أجل ترديد شعارات ببغائية، تهتف بحياة "ملك الملوك" وبالرئيس الخالد المفوه الذي لا يشق له غبار، إطلاق السباب البذيء ضد شعبه، أو تعليق الانتكاسات التي نتجت عن أدائه الاستبدادي على مشجب المؤامرات الخارجية، في انتظار أن يخضع الرئيس لخيار استجداء التدخل الخارجي، للتوسط له لدى شعبه، من أجل لعب أشواط إضافية، أو من أجل الخروج الآمن من البلاد، مع بطانته المنخورة بالفساد والعفن السلطوي، متوهما حلول موعد الإفلات من العقاب عن الدماء التي أهرقها، وأموال الشعب التي أهدرها، ومستقبل الأجيال الذي رهنه، حيث ستضطر الشعوب الثائرة إلى كنس أزبال الاستبداد ودفن نفاياته، وهو ما سيتطلب وقتا ثمينا، قبل أن تنجح الجماهير في إرساء ثقافة جديدة للحكامة الحقيقية، التي مصدرها، الأول والأخير الإرادة الشعبية.
ويمكن القول إن المستبدين العرب قد ذهبوا بدورهم ضحية استبداد من نوع آخر، إذ تستبد بهم الرغبة الجامحة في أن يتحولوا إلى ملوك تصنع لهم عروش على المقاس، وتيجان مرصعة بآلام ومآسي الناس، وولاءات داخلية وخارجية، حسب الطلب، في سوق النخاسة العالمي، حيث أموال الشعوب تصرف فوق الطاولة وتحتها، يتلقاها نصابون محترفون بدعوى قدرتهم على تشكيل 'لوبيات' فاعلة لدى مراكز النفوذ في العواصم المعلومة، تقي جلالات الديكتاتوريين العرب - وكلهم مرؤوسون من خارج أوطانهم - من التقارير الحقوقية 'المسيئة'، ومن 'اللسان السليط' للصحافة الدولية الحرة، على ندرتها.
ويكفي شعوب العرب أن تتأمل في شكل حكامها المتسلطين، وكأنهم صنعوا من قالب واحد. فمن فرط جلوسهم الطويل على الكراسي المنهوبة اتخذوا شكلها ومقاسها، وكأن الكرسي جزء من أجسادهم لا ينفصلون عنه إلا بعملية جراحية دقيقة، لا يجريها إلا أمهر الجراحين، لفصل جسد الكرسي عن جثة الحاكم الجائر ومؤخرته.
وفي الحالة العربية الراهنة، تكللت العملية بالنجاح أحيانا، وارتاحت بعض الكراسي، فيما استعصت في حالات أخرى، كان التصاق الحاكم بالكرسي إسمنتيا، فعجز الجراحون عن التفريق بين الكرسي والجالس المنصهر مع شرايينه، المتعطش لدمائه، ففسد الكرسي بفساد الحاكم الظالم الذي استمد لغته من خشب الكرسي المظلوم والمغلوب على أمره.
وتعج قاعات الانتظار في عيادات الجراحين بعشرات الكراسي الطامعة في فك الارتباط مع الجالسين فوقها والجاثمين على أنفاسها، راغبة في أن يؤدي مبضع الجراح دوره التاريخي في إنقاذها من صبيب الدماء الفاسدة، بعد أن تبرعت شعوب العرب الثائرة بدمائها النقية المحصنة ضد الجراثيم التي لوثت مشارق العروبة ومغاربها، منذ أكثر من نصف قرن من الأزمنة الوبائية، غزا فيها الجراد السلطوي الاستبدادي كل المراعي، وعم فيها جفاف الحريات، إلى أن حل اليوم موسم ري الأرض اليباب برذاذ دماء الشهداء.
موسم اللاعودة إلى الكراسي والعروش التي نخرها السوس وأكلتها الأرضة، ونهاية الخطب المدبجة من محبرة واحدة، اعتادت تصريف الوعود بإلغاء حالة الطوارئ، من أجل إحلال طوارئ أشد إيلاما ووطأة، بعد أن تستقر الأزمة وتعود إلى حالتها الطبيعية، ووضع دساتير جديدة تلبس الديكتاتورية أزياء التحديث الوهمي والدمقرطة الصورية التي تستغفل نباهة الشعب ويقظته، وهو الذي حول كل أيامه إلى "جمعة للشهداء"، واثقا من أن أجمل مستبد لا يعطي إلا ما يملك! وبأن الشعب قادر على إعطاء كل شيء في سبيل حريته وكرامته. ...
أقرأ المزيد
13
سيجد مؤرخو المستقبل صعوبات جمة في تدوين وقائع الزلزال العربي الهادر وهزاته الارتدادية، إذا اعتمدوا منهج التاريخ المقارن، حيث سيخذلهم تاريخ الثورات الحديثة في العالم، كما ستخذلهم مرجعيات قرون بائدة، ذلك أن الاستبداد العربي يتميز بالفرادة، ويشبه الى حد كبير، الأمراض النادرة التي لا تضعها شركات تصنيع الأدوية ضمن أولوياتها، نظرا لضيق حجم سوقها، ولكونها مرشحة للانقراض.
وقد أغمض ما يسمى بـ"المجتمع الدولي" أعينه وآذانه، على اعتبار أن الاستبداد العربي هو نتاج طبيعي، في نظرها، لتركيبة المجتمعات العربية القبلية العشائرية، التي تحكمها الأسطورة والدجل. وهو ما يحول دون أن تجد القيم الديمقراطية منافذ ومداخل في محيط مغلق جامد، يصر على أن يعيش خارج عصره.
وكان ذلك "المجتمع الدولي" المزعوم سيواصل التغاضي عن واقع الاستبداد العربي طمعا في ذلك الرحيق السحري الذي تغزلوا به، إلى درجة وصفه بـالذهب الأسود، فمن أجل عيونه السوداء كل شيء يهون.
لكن ثورة الشعوب العربية، التي لازالت في أطوارها الأولى، دفعت بالدول العطشى إلى النفط، التي تستهلك بترول العرب وتحرص على عدم استهلاك مخزونها الاستراتيجي منه، تحسبا لأهوال المستقبل، إلى إعادة ترتيب حساباتها، عبر الادعاء بأنها ستلعب من الآن ورقة الشعوب العربية، على حساب حكامها، فأزهرت كرما حاتميا يضاهي الكرم الذي أبانت عنه خلال حروب الخليج.
وظفت ترسانات عسكرية غير مسبوقة، لـ"حماية" الشعب الليبي ضد معتوه طرابلس، في انتظار أن تقدم كشف الحساب والفواتير الصاروخية لممثلي الشعب، بعد أن تنطفئ فورة الإرهاب الاستبدادي، بنفس الطريقة التي كانت بها دول التحالف تقدم الفواتير للكويت، ليس فقط مقابل الصواريخ التي تهاطلت على رؤوس الشعب العراقي، بل، أيضا،عن أية قارورة كوكاكولا يستهلكها المارينز، وهو منطق واضح للعيان، إذ إن "الحلفاء" لم ينخرطوا في حرب الإبادة حبا في الشعب الكويتي، بل لكون مخزون النفط العراقي أصابهم بالإدمان، وفتح شهيتهم للدماء، تماما كما يفعل سمك القرش حين تلتقط حواسه رائحة الدم.
التاريخ لا يعيد نفسه، كما يستبعد ذلك كارل ماركس. فالتاريخ، حسب رأيه، يبدأ بمأساة وينتهي بملهاة، ومن ثم، فالتاريخ ماكر، لكن مكر التاريخ العربي يعيد إنتاج نفس السيناريو: جمهوريات عجائبية، تطمح لكي تتحول إلى ملكيات وراثية يعبث الأبناء بما تبقى من أوصالها وثرواتها، مستبدون لا يحسنون قراءة ما حدث لجيرانهم الأقربين.
ليس جنونا أو جهلا بالمعطيات الجيوستراتيجية، بل جراء عقدة دفينة تشكل خاصية مشتركة لدى المستبدين العرب، وهي احتقارهم العميق للشعب، واستهتارهم بذكائه.
بل بوجوده وحقه في الحياة، ثم استهتارهم بأوطانهم، إلى درجة العمل على استقدام المستعمرين الجدد، وإتاحة الفرصة أمامهم، لكي يظهروا في صفة ملائكة تطوعوا لتحرير الشعوب العربية، وأبطالا أخفوا ملامحهم الشيطانية تحت قبعة أحرار في خدمة تواقين للتحرر.
وهو ما يسمح للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، في الوقت الذي صوبت فيه المدافع الأمريكية والأوروبية والعربية فوهتها نحو الأرض الليبية، أن يقول وعيناه كادتا تدمعان - ليس تأثرا بل طمعا في ثمار الحصاد المرتقب - إنه وجماعته لن ينوبا عن الشعب الليبي في تقرير مصيره، متوهما أنه مازال في بلاد العرب من شعوب ثائرة سُذَّج سيصدقون ما يطالعونه كل يوم على الشاشات، من دموع التماسيح على مصير الشعب الليبي، المنخرط في معركة حاسمة، لكنها غير متكافئة، بين الفضيلة والشر، بين خيار الشعب والمستبد، الذي يلفظ أنفاس تحكمه الأخيرة من دون أن يدري، ويهدي بلده، على طبق من ذهب، للتتار الجدد، وسدنة وخدام الإمبراطورية الصناعية النافذة، وشركات النفط التي لم يحدث، أبدا، أن كان لها ميثاق إنساني يراعي منظومات القيم، إذ لا قيم لها سوى التي يتم تداولها في البورصات الدولية، والتي تدر المليارات في رمشة عين.
ينبغي لنا أن لا ننسى جريمة غزو العراق، وإبادة أكثر من مليوني عراقي، على يد الولايات المتحدة وحلفائها وعرب أمريكا وإسرائيل، مثلما لا يمكن أن ننسى ما تعرض له لبنان وأفغانستان من مجازر وإبادة على يد الكيان الصهيوني بأسلحة أمريكية وغربية، ودعم من الدمى العربية الحاكمة آنذاك.
ولا يمكن أن ننسى الهولوكوست، الذي تعرضت له غزة على يد إسرائيل، من دون أن يتحرك السيد أوباما وحلفاؤه العجم والعرب.
لقد كنا في حاجة، حقا، إلى دموع ساركوزي، ليذرفها رأفة بمأساة الشعب الفلسطيني، التي طالت واستطالت.
لكن هذه الدموع ستظل مؤجلة إلى أن يحول الفرقاء الفلسطينيون تناقضاتهم المميتة إلى نفط قادر على إغراء دول النفاق العالمي التي اعتبرت، في الحالة الفلسطينية بالذات، أن "دولة" إسرائيل هي نفطها ومصدر ثرائها واستقرارها، ونسيت أن الشعب الفلسطيني، مثله مـــــثل الشعب الليبي، شعب عربي تواق إلى الحرية، تكالبت ضده أهواء الشرق والغرب وظلم ذوي القربى، ولم تهب لنجدته طائرات ساركوزي ولا صواريخ أوروبا، ومن سبقه ومن سيليه من 'محرري' الشعوب الجدد، الذين هم في أمس الحاجة إلى من يحررهم من عقدة اسمها... إسرائيل! وهنيئا للسيد أوباما بجائزة نوبل للسلام والسلام. ...
أقرأ المزيد
5
قد يصاب المتابع للشأن السياسي المغربي بنوع من الحيرة أمام إصرار بعض الفرقاء على التمسك بأسطورة "الاستثناء المغربي"، كما يسمونها تارة، و"الخصوصية المغربية"، كما ينعتونها في الكثير من الأحيان.
إن هذا الوطن المغربي الرابض عند ملتقى البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، على مرمى حجر من القارة الأوروبية والمحاط بـ"الخصوم"، وكأنه جزيرة عزلتها الأطماع الجيوستراتيجية عن امتداداتها العربية وجذورها الافريقية، قد يوحي بصواب أسطورة "الاستثناء" التي تجد بعض مسوغاتها في أنه البلد الوحيد الذي صمد في وجه المد العثماني، حيث لم يجد "الرجل المريض" له موقع قدم في الأرض المغربية.
و لما أصيب هذا الوطن بالوهن تكالبت عليه أطماع الفرنسيين والاسبان والألمان، إلى أن وزعت باريس ومدريد أوصاله في ما بينها وتركت مدينة طنجة مسرحا لكل القوى الاستعمارية آنذاك، بإعطائها وضعا دوليا، تلته عملية منح الاستقلال لمناطق المغرب بالتقسيط، ابتداء من عام 1956.
لكن هذه المعطيات التاريخية لا تبرر الإصرار على التمسك بأسطورة "الاستثناء المغربي"، بعد مرور حوالي ثلاثة عقود على استقلاله الإشكالي، الذي لم يسفر عن إقناع السلطة بتفويض الحكم إلى الشعب، عبر إرساء مؤسسات تمثيلية حقيقية، بل انخرطت البلاد في عملية تزوير فاضحة لإرادة الجماهير عبر انتخابات مزيفة وبرلمانات مطبوخة (الانتخابات الأخيرة قي المغرب تم تزويرها بطريقة نزيهة وشفافة)، وحكومات ديكور مسلوبة الإرادة، وشعب تعرض لكافة أنواع القهر والإقصاء السياسي والاجتماعي والثقافي، واقتصاد تم تسليم مفاتيحه إلى المستعمرين القدامى ـ الجدد، وظهور طبقة ملتصقة بالسلطة إلى حد الذوبان، استأثرت بثروات البلاد واحتكرت تسيير التجارة والخدمات ورسمت مربعا لا يحق لأحد أن يقتحمه، ما دام حكرا على عشرات العائلات التي تحظى بالمباركة، فيما عشرات الملايين من أفراد الشعب يعيشون في الضواحي العشوائية بدون أفق، وتحت الخط المتردي للفقر.
وقد استأنست السلطة بهده المعطيات واعتبرتها قاعدة ذهبية تزكي "الاستثناء المغربي" في محيط إقليمي ودولي هائج، إلى أن حل يوم 20 شباط/فبراير 2011 الذي انتصر فيه الشباب لصوت الشعب ونزلوا إلى ميدان الاحتجاج لعرض مطالب جماهيرية من أجل امتحان قدرة السلطة على التعاطي مع الدفاتر المطلبية ذات الطابع السياسي والمؤسساتي الواضح، والتطلع الذي لا غبار عليه لنهاية مسلسل الاحتكار والتسلط وتزوير الإرادة الشعبية وتحويل المغرب إلى قاعة انتظار كبيرة.
جاءت حركة 20 فبراير الشبابية الثائرة خارج أي تأطير حزبي معلوم، حيث اختارت في بداياتها برلمان الشباب في العالم، أي الشبكة العنكبوتية من خلال المواقع الاجتماعية على الانترنت، وهي مواقع لا ترضخ للرقابة السلطوية القبلية أو البعدية.
قبل يوم 20 فبراير راهنت السلطة على شباب مغربي افتراضي غير مسيس، وغير منخرط في الأحزاب القائمة، قاطع بكثافة الانتخابات التشريعية لعام 2007، وهو ما اعتبرته السلطات زهدا من الشباب في العمل السياسي.. وهنا مكمن الخطأ السلطوي، إذ أن تلك المقاطعة التي تسميها الطبقة السياسية المغربية عزوفا هي في الواقع إعلان صريح عن رفض شبابي لوضع سياسي واجتماعي واقتصادي بلغ أقصى درجات التردي، ووضع اجتماعي ضرب الأرقام القياسية في الهشاشة، وينذر بانفجار غير مسبوق.
لقد فشلت السلطة ومن يتبعها في التشويش على تظاهرات يوم 20 فبراير، وعجزت عن بلطجتها، رغم بعض المحاولات المكشوفة في العديد من المدن، إلا أن السلطة عادت إلى نفس الأساليب القديمة يوم 13 اذار/مارس 2011، حين قمعت بضراوة وشراسة وحقد تظاهرات الشباب بمدينة الدار البيضاء، وهو ما يدل على أن السلطة المغربية ليست استثناء في محيطها العربي، وأنها تسير على خطى السيناريو التونسي والمصري، من دون الاستفادة من سلطويين.. منهم من هرب، ومنهم من خلع، ومنهم من ينتظر.. ومنهم ما يزال يعتبر شباب شعبه قطيعا تردعه الشعارات الزائفة أحيانا، وأدوات القمع والهراوات الغليظة.
ويوم الأحد 13 مارس بالدار البيضاء المدينة ـ الرمز الحافل تاريخها بالرفض الشعبي للأقوال غير المتبوعة بالأفعال الملموسة، في ذلك اليوم سقطت شعارات الانفتاح على الرأي الآخر، أي على رأي الأغلبية الساحقة، حين لجأت الأقلية التي اختارت منذ نصف قرن معسكرها، أي معسكر العنف ومطاردة الحق في التعبير الحر، لكن صمود شباب المغرب واستمرار انتفاضته المجيدة في حضن حركة 20 فبراير الشبابية والأحداث المتعاقبة إقليميا ودوليا ستؤكد لسلطات القمع وأنظمة الاستبداد أنهم واهمون، حين تمسكوا بمنطق الهراوة والتنكيل والقتل.. كسلاح للحيلولة دون وصول تباشير الربيع العربي والمغربي القادم في موعده المحتوم. ...
أقرأ المزيد
2
يسدي مكيافيلي، صاحب كتاب "الأمير" المرجع الأساس للسلطوية، وإنجيل المستبدين، نصيحة ثمينة للحكام بألا يلعبوا لعبة النّرد مع بسطاء القوم، فاذا خالط الأمير 'رعاع' الشعب، ذهبت هيبة السلطان أدراج الرياح.
وكانت الهيبة والتهيّب أساس شرعية الحاكم في عصر مكيافيلي، قبل ان تقوم ثورات أوروبا بتصحيح المسار، عبر اعادة الشرعية الى الشعب كرافد أول وأخير ينهل منه الحاكم العادل أسباب وجوده، على اساس ان السلطة مجرد تفويض محدود في المكان والزمان.
ولم يكن المستبدون العرب في حاجة الى منظري الطغيان ليركبوا أحصنته، فهم لا يستأنسون بالكتاب، ليس ترّفعاً بل جهلاً مزمناً، وادقاعا في الأمية الأبجدية والمعرفية والسياسية، على الرغم من ان أغلبهم يتوفر على دكتوراه فخرية يفتخر بها اينما حلّ وارتحل، تسلمها بعض الجامعات المرموقة تزلفاً وطمعاً في هبات كريمة من أصحاب المهابة، وملوك ورؤساء وأبناء جهلاء العرب المتربعين على عروش الخلود.
حكّام أمة "إقرأ" لم يستثمروا سوى في مخلفات الاستعمار الغربي، الذي لم يرحل الا بعد ان خلف وراءه أذنابه وحوارييه ونسله الذي يواصل حصد ما زرعه.
تعددت أسماء الاحتلال في الماضي، فقد كان استعمارا مباشرا في الجزائر، و'انتداباً' في بلاد الشام و'حماية' في المغرب. لكنه لم يرحل الا بعد ان لغَّم وزرع أرضنا بالضغائن القبلية والنعرات السلالية والمذهبية واللغوية، وترك ألغاما وهو مؤمن بقدرته على تفجيرها عن بُعد.
فوجد المستبدون العرب فيها مرتعاً خصبا لبسط نفوذهم خارج كل شرعية، بعد ان حملت أغلبهم دبابات الانقلابات العسكرية الى السلطة فدعوها باطلا "ثورات"، علماً منهم انها تمت في غفلة من الشعوب، التي لم يحدث ابدا في تاريخ العرب ان استشارها حاكم او التمس رأيها في تقرير مصيرها.
وكيف لها ذلك بعد أن تعرضت لمسلسل جهنمي قوامه التجهيل وتعويم المنظومات التعليمية والتربوية في ما لا يفيد، واحتكار الخدمات العمومية وفرض الوصاية على التجارة والاقتصاد، وتحويل البلاد العربية الى "مقاولة عائلية" تنفرد بتسويق المواد الاستهلاكية الأساسية ضداً لأبسط قواعد الاقتصاد الليبرالي، رغم سيئاته العديدة، فتتحول "الدولة" المشّخصة في الحاكم الظالم الى المعلم والطبيب والتاجر والوسيط والسمسار، فيما لا يتم الاعتراف لـ"الرعيّة" (اذ لا توجد مواطنة لدى العرب حسب انظمة الاستبداد) الا بوضع المستهلك المهوس بالمعيش اليومي وتكاليفه التعجيزية، التي تبطل لدى البسطاء قريحة المطالبة بأي شيء آخر غير الرغيف المغموس بالمعاناة والاحتقار، او على الأقل هكذا تصور رموز التسلط العربي ذوو المخيلات المريضة، الذين أخضعوا الشعوب لمزاجهم الخاص وأهواء أنجالهم والعصابات الانتهازية التي تدور في فلكهم وتستنزف ثروات البلاء، كالجراد الذي لا يترك وراءه سوى الخراب.
وما دام الديكتاتور العربي قد تقمّص كل الادوار واستباح كل المحظورات، فإنه صنع من 'الهيبة' التي ينصح بها ميكافيلي الحكام قداسة وهمية تحيط شخصه المعلول والمريض، الى درجة ان 'قائد ثورة الفاتح' كشف عن آخر أوراقه الدموية حين هدد "شعبه" منذراً ومحذراً بأن من لا يحبه لا يستحق ان يعيش، مبدعاً في ذلك نظرية رابعة جديدة، ترهن مصير الشعب بمدى ولائه للطاغية ذي القداسة المدنسة العفنة فيما حكمة الشعوب تقول ان حب الاوطان من الايمان" ولا ولاء الا للوطن وحده.
...
أقرأ المزيد
0
تابع الدولية