سقطت أنظمة استبدادية بـالسكتة الشعبية، فيما اكتشفت أنظمة أخرى فجأة ان لها شعوبا، لكن خيالها لم يجمح بعيدا، فهي ما تزال تنظر اليها على أنها مجرد بطون جائعة، فعمدت على وجه الاستعجال الى مراقبة اسعار الطحين والطماطم والزيت، حتى لا تخرج من عقالها، ونسيت أن حاملي تلك البطون يملكون احلاما وتطلعات وشوقا جارفا الى الحرية والكرامة، ورغبة اكيدة ليس فقط في ترميم الشرخ العميق في جدار وطن جريح، بل يريدون اليوم اقتلاع وباء الفساد من جذوره، وليس فقط معالجة نتائجه بالمراهم المهدئة والمسكنات الظرفية.
واذا ما قمنا بقراءة هادئة لأدبيات ما تبقى من الأنظمة التي لم تمسها بعد 'السكتة الشعبية'، فاننا نصاب بالذهول لكونها تعتبر الشعب مفهوما جديدا لا مرجعية له في ثقافة العرب العاربة، فيما حول عرب النفط أرجاء العالم العربي المعوزة الى منتجعات للدعارة والقمار، واستثمروا في فقر اخوانهم العرب قليلا من الفكة، فيما الارصدة من العيار الثقيل تنام راضية مرضية في البنوك الامريكية والاوروبية الصهيونية الى حين يصادرها الحلفاء لدى حلول السكتة الشعبية، بعد ان يطالب الشعب وفئاته المحرومة باستعادة المال المنهوب من ارضها وعرقها.
لقد انتهى ذلك العهد الذي اعتبرت فيه أنظمة الاستبداد ان الشعب فكرة جديدة ودخيلة، وما ذكى وهممها كونها لم تستمد شرعيتها من المنطوق الشعبي الحر، وانما استندت الى أساطير ودجل وشعوذة سياسية وجدت لها منظرين مرتزقة و مؤرخين رسميين ومحللين ومحرمين سياسيين، وكلاب حراسة شرسين بأنياب طويلة تنهش في جسد كل من تجرأ على الجهر بسؤال الشرعية.
ها قد انطلق عهد السكتات الشعبية، لكن السؤال يظل قائما: هل اسقاط الديكتاتور يعني بالضرورة اسقاط الديكتاتورية، التي كان لها من الوقت ما يكفي لنسج شبكات متداخلة ومتقاطعة، اخترقت كل مجالات الحياة من أمن واقتصاد ومؤسسات واعلام وولاءات خارج الحدود، وتواطؤات من ديمقراطيي أوروبا وامريكا، ومن منظمات دولية شكلت لها رأس مال هائلا من تجارة تسويق صورة الديكتاتور عالميا والترويج له وكأنه المنقذ من الضلال وحامي حمى أمريكا وأوروبا واسرائيل من خطر الاسلام، ومحاربة كل دعوة الى الانتفاض والانعتاق واحقاق الحق.
وقد أحبطت انتفاضة الجماهير العربية من سيدي بوزيد الى ميدان التحرير، كل هذه الصيغ الملتوية التي هدفت الى تأجيل الثورة الى أجل غير مسمى، وهو ما سيدفع بالمتربصين بالشعوب الى مراجعة حساباتها بالكامل.
وقد تصيب الهدف اذا هي راهنت على دعم الثورة، وستخلف موعدها مع التاريخ ان هي عادت الى التآمر عليها، واصرت على دعم من تبقى من المفسدين في الارض.
فمن رحم ثورتي تونس ومصر خرج قاموس عربي جديد نقحت صفحاته من المصطلحات المتآكلة والمفردات ذات الرنين الصداح والمعنى الاجوف، والكلمات التي ضجيجها اقوى من مدلولها، كما تخلص القاموس العربي الجديد المنبثق من معاناة الشعب من كل الامثال و الحكم التي ربت الانسان العربي على الانهزام والخضوع والامتثال وطاعة الحاكم، حتى لو كان على ضلال وظلم وجبروت، واوصته بالصمت لانه من ذهب، فيما الذهب تكدس في خزائن الطغاة، من البحر الى البحر.
و أسدت له نصائح بحفظ اللسان لانه يؤدي بصاحبه الى التهلكة، (ألم يقل أحدهم: لساني سبع ان تركته أكلني)، وبالتزام الصمت حيث يجب الكلام، حيث تبارى شعراء الديكتاتور والمداحون في تعداد فضائل السكوت وفوضوا للطاغية الجلاد وحدة الحق في القول والفعل.
لقد خرج القاموس الجديد منتصرا من خضم ثورتي تونس ومصر.. وما ستليها من ثورات شعبية أخرى، حيث ستتخلص اللغة وقاموسها دفعة واحدة من الحمولات الاستبدادية المزروعة في صلب الكلمات، فاللغة ليست بريئة، كما يقول علماء السيميولوجيا، وعاشت الثورة. ...
أقرأ المزيد
0
أحمد السنوسي
يدرس الممثلون في المسرح، وحتى المبتدئون منهم، ان عليهم الا يخطئوا في طريقة خروجهم من الخشبة بعد اداء الدور الموكول اليهم.
ويعرف المقامرون المدمنون ان عليهم مغادرة طاولة القمار في الوقت المناسب للحد من حجم الخسائر،لكن المستبدين والديكتاتـــــوريين ممثلون فاشــــلون بالضرورة، ومقامرون يصرون على البقاء لكونهم لا يقامرون بأموالهم الخاصة بل بأموال الأمة.
المستبدون العرب مقامرون مارسوا الغش، بدءاً من تزوير ارادة الشعب ومصادرة اصواته وخلط الاوراق في الداخل، ومبايعة المهيمنين المتنفذين في الخارج وخدموا أجندات مشبوهة، واشتغلوا سماسرة حرب باسم السلام، كما في الحالتين التونسية والمصرية، حيث روج الديكتاتور المخلوع زين العابدين بن علي لاسطورة مفادها انه الحصن الحصين ضد الخطر الاسلامي، والجدار الواقي لأوروبا وامريكا ضد ما سمته مخابرات الغرب بـ'الصحوة'، وعملت على تحويلها الى 'غفوة' مستديمة لشعوب رسم لها ان تظل خارج اليقظة الديمقراطية التي نعمت به شعوب امريكا اللاتينية واوروبا الشرقية.
وفي الحالة المصرية بلغت المضاربة في اسهم بورصة السلام اوجها وذروتها، حين تفرغ الرئيس الطيار لمصر العروبة، للعمل بالوكالة والنيابة لمحاربة بوادر الانتفاضات العربية في فلسطين ولبنان والعراق، ضمانا لأمن اسرائيل، وحصل بالمقابل على تفويض بإطلاق يده في اعناق شعبه، والتنكيل بالمعارضة وتزوير الانتخابات وتحويل جمهورية مصر الى ملكية تنتمي الى القرون الوسطى، لها وريث للعرش بايعته الطبقات الانتهازية المافيوزية المستفيدة من الفساد الاقتصادي والسياسي، وتصاهرت معه لضمان استمرارية نظام الاستبداد والقهر ولاحتقار.
الديكتاتوريون مقامرون مدمنون طالبهم الشعب بالرحيل الفوري، فالتمسوا اياما وشهورا اخرى لمزيد من التربع على صدور المظلومين، واستمر صمود الشعب، وانفجرت براكين ثورته في وجه الديكتاتور وجماعته الفاسدة.
وهو ما اصاب الحلفاء قبل الاعداء الذين دخلوا على الخط لضم صوتهم الى صوت ميدان التحرير، حتى لا تنفلت الثورة المصرية من عقالها وتصيبهم برذاذها وشظاياها، الى درجة كدنا فيها ان نتصور ان حسين باراك اوباما نزل بدوره الى الشارع المصري الهادر ودمه ينزف من فرط ضربات بلطجية صديقه حسني مبارك، وضربات مرتزقة آخر ساعة الذين تم استئجار خدماتهم في السابق خلال حملات الانتخابات الرئاسية، حتى لا يعلو صوت على صوت "الرايس" واذنابه وزبانيته و امبراطوريته البوليسية والمخابراتية التي تفتت في اساليب تهييج الشارع المصري بمناسبة او بدونها، وافتعال أزمات كروية أو اعلامية من اجل تحويل الشعب الى مجرد غوغاء يتم استغلال مشاعرهم الوطنية الصادقة، الى ملهاة تنسيهم تراجيديا معيشهم اليومي المفرط في التعاسة، ومشاغل محيطهم السياسي المفرط في الفساد، والقذارة والأوساخ الى درجة عينوا "نظيفاً" وزيراً اول لعله ينظف مصر مما اعتراها من توجهات شعبية نحو الانعتاق الديمقراطي، والرغبة الاكيدة في التحرر، وهي رغبة لا ينبغي لأحرار مصر ممن عارضوا الاستبداد ماضياً وحاضراً، ان يتركوها صيداً سهلاً لسمك القرش الامريكي الصهيوني، وهدية على طبق من دم شعب طاهر ثائر، لحسين باراك اوباما الذي يحاول السطو على تضحيات الشعب المصري واحتواء ثورته العظيمة لضمان استمرار هيمنة امريكا وحفظ مصالحها ومصالح اسرائيل وامنها.
(لماذا لم يضم اوباما صوته للشعبين الفلسطيني واللبناني ضد جرائم اسرائيل)؟ فالذئاب عادة ما ترتدي أقنعة الحملان لكي تنقض على فريستها، وتركب على الثورات حين ينفجر بركان الغضب العربي بعد طول سكون.
فحذار من ان تتحول ثورة شباب مصر العظيمة الى ارادة امريكية سيضع من خلالها الرئيس الامريكي كل الحيّل والألاعيب السياسوية رهن اشارة صديقه المبارك، من اجل تمكين طاغية مصر من لعب أشواط اضافية، رغم علمه الاكيد بان نظام مبارك انتهى الى غير رجعة، ولا فائدة من محاولة انقاذه واطالة عمره الاستبدادي.
لكن هل ما فشلت فيه الولايات المتحدة في العراق وفي الملف النووي الايراني، وفي افغانستان كرزاي، يمكن ان تنــجح فيه بمصر الصامدة حتى النصر، التي يســعى رئيسها المخلوع شعبياً واخلاقـــــياً الى توريث البلاد لصديقه حسين باراك اوباما بعد ان اخفـــــق في توريثها لابنه جمال؟
...
أقرأ المزيد
5
انتهيت منذ شهور من كتابة نص مسرحي تطغي عليه سخرية سوداء مريرة مرارة واقعنا، وضعت له عنوان 'ثورة الكراسي' ويتمحور حول فرضية مفادها انه ما دامت شعوبنا تؤجل انجاز ثوراتها، فلماذا لا تنتفض الكراسي التي يجثم على أنفاسها مدمنو الاستبداد؟
وعلى حين غرة أبدعت تونس فصلا جديدا في "ثورة الكراسي" وأتت باضافات جمحت بالواقع حتى كاد أن يتحدى جموح المخيلة وعادة ما تملك الثورات جاذبية خاصة لكونها في حد ذاتها عملا رومانسيا وتراجيديا في نفس الوقت، لكن الثورات تجد دائما من يتربص بها، فهناك طوابير من أكلة لحوم البشر تغرس إبر الشؤم في جسد الثورة الفتية حتى لا تينع ويقطف الشعب ثمارها بعد أن قطف رؤوس المفسدين في انتظار استئصال الفساد تحسبا لقطع الطريق على أن تعيد الثورة غير المحصنة انتاج سيناريوهات الماضي الاستبدادي، وحتى لا تأكل الثورة أبناءها، ويعيد تاريخ الظلم نفسه.
لم تحط طائرة "زين الهاربين" بمطار جدة حتى انبرى المشككون ومحترفو ترويج الاحباط ـ الذي هو في حد ذاته تراث عربي عريق وداء عضال لم ينفع فيه علاج ـ ما يحز في نفس الرافضين للتغيير، أن الشعب التونسي حقق انجازا عظيما حتى تمكن من الانتصار على الخوف قبل الانتصار على الاستبداد.
إذ أن بطانة الرئيس المخلوع كانت تراهن على سكونية الشعب وعجزه المفترض عن رد الفعل. وبالنسبة لهؤلاء فإن "الشعب" فكرة ومفهوم جديدان ما دام الأمر يتعلق في نظرهم بـ"رعايا" وقطيع يساق الى المسالخ فرحا بمصيره قنوعا وخنوعا، سقف طموحه هو الولاء والطاعة والخضوع التام للاملاءات الفوقية والتعبير عن الامتنان للجلاد.
كسر الشعب التونسي هذا "القانون" العربي غير المكتوب حين صرخ بأعلى صوته: "ليس بالخبز وحده يحيا الانسان"، (وحتى الخبز لم توفره هذه الانظمة الفاسدة للجوعى والمحرومين) وهي صرخة لم يعتد سماعها قادة دول 'الديمقراطية الفضائية' حيث هامش الصراخ لا يتوفر إلا عبر الاقمار الصناعية والقنوات الفضائية ـ الفضائحية المتناسلة كالارانب، فيما الديمقراطية الارضية محرمة بمرسوم رئاسي او عشائري، فلا صوت يعلو على صوت العشيرة والعائلة المالكة والحبايب المقربين وكل الممانعين في أن تكون الشرعية الوحيدة هي الشرعية الشعبية، ما دام ان الديمقراطية ما هي الا 'حكم الشعب' شكلا وجوهرا. اما الدكتاتور الذي يقول ان السلطة للشعب، يقولها لانه يعتبر نفسه هو الشعب.
يقول المتقولون ان ثورة تونس ليست سوى انقلاب عسكري وقوده الانتفاضة الشعبية، حيث تقمص قادة الجيش دور المخرج السينمائي المحنك اظهر حيادية صورية، بحثا عن الشرعية الجماهيرية وتجاوب الشعوب والأمم فيما القيادات العسكرية قابعة في الكواليس تنفذ مخططا من صنع مطبخ وكالة المخابرات المركزية الامريكية.
وفي نظرنا وبعيدا عن اعداء الثورة وعن كل المتقولين وكل الذين لا يريدون خيرا لانتفاضة الشعب التونسي المجيدة والتاريخية، نقول ان الجيش التونسي ليس في حاجة الى نياشين امريكية يوسم بها صدره ما دام الشعب منحه اسمى النياشين والاوسمة واكثرها قيمة ودواما قد لا تعادلها اي ثروة زائلة او أي جاه او مجد مجلوب من وراء البحار.
فقد منح الشعب التونسي فرصة لا تعوض للجيش لكي يكتب صفحات مجيدة من تاريخ البلاد لم تكتب من قبل فلا الاستقواء بالاجنبي يفيد في مجال الشرعية ولا الاستنجاد بمظلة اعداء الامة والاحتماء بنفاق دول الاتحاد الاوروبي بزعامة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي المتصهين الذي يبرع في قلب معطفه حسب اتجاه ريح مصالح بورصة باريس، وليس في اتجاه رياح الانعتاق التي عصفت بالاستبداد خلال الثورة الفرنسية.
ويبدو أن مروجي الاقاويل وضعوا خطة استباقية لمنع شظايا الشرارة التونسية من ان تنتقل الى دول الجوار وباقي دول المجرة العربية ذات الافلاك الجامدة الى حين.
فقد تعامل القوالون مع الثورة التونسية كما لو تعلق الامر بـ'فيروس' فتاك وشديد العدوى، وحولوا الاشاعة المغرضة الى امصال واقعية لعلها تقوي مناعة انظمة الفساد يقينا من القوالين بأنه اذا عطست تونس فسيصاب كل غرب امريكا بزكام مزمن، بعد اصابتهم بالرعب من النموذج التونسي، وبالامس احتضنوا ورحبوا بنموذج زين بن علي. لكنهم ـ مسامير بن علي ـ اخطأوا مرة اخرى حين سارعوا الى دعم اسعار الخبز والزبدة والحليب والسكر ونسوا ان يدعموا حق الشعب التونسي في الحرية والكرامة. ...
أقرأ المزيد
4
تراكمت برقيات ويكيليكس امام بيوت الحكام العرب كما تتراكم الازبال والقاذورات في شوارع كبرى المدن والحواضر العربية، وتزكم نتانتها الانوف، من دون ان تنجح الحلول الترقيعية سوى في استفحال الظاهرة، وهو امر بديهي اذ كيف يمكن لأيادي قذرة ان توكل لها مهمة التنظيف والتطهير؟
ويستفاد من السيل العارم لبرقيات الخارجية الامريكية المسربة عبر موقع ويكيليكس، ان الحكام العرب يسترجعون شهية الكلام غير المباح كلما استسلموا لمتعة المصارحة والمكاشفة مع جيش الدبلوماسيين الامريكيين، بينما هم رافضون لشهية المكاشفة مع شعوبهم وجيرانهم و'أبناء العمومة' و'الاشقاء'، حيث يتبارون جميعا في اتقان رياضة العناق الخانق بالاحضان، وتبويس اللحى وحك الانف بالانف، الى درجة عم معها الزكام من الخليج الى المحيط.
كان العرب يتوهمون ان النميمة فن عربي خالص وتراث شفوي وعرض فرجوي مفتوح ومفضوح جدير بأن تعلنه اليونسكو تراثا لاماديا للبشرية جمعاء، لكن اوهامهم تبخرت حين اكتشفوا من خلال برقيات الدبلوماسيين الامريكيين من خريجي الجامعات والمعاهد العسكرية والمخابراتية، ان فن النميمة تحول الى صناعة امريكية قائمة بذاتها، نميمة بلا حدود، قادرة على التسلل الى غرف النوم، التلصص على كوابيس الحكام وقراءة طبيعة وفحوى قراراتهم قبل ان يتخذوها، في خطوة استباقية تحد من شطحات عمال وولاة امريكا على بلاد العرب، المفوض اليهم حماية مصالح الولايات وأمن اسرائيل ورعايتها. وما دامت واشنطن تعتبر حكام العرب رعاة، فانها تفترض من باب الواقعية السياسية انه اذا فسد الراعي فسدت القضية.
ويعكف الدبلوماسيون الامريكيون على قياس درجة فساد الانظمة، كما يقيس خبراء علم الارض درجات الهزات والزلازل، فاذا ارتفعت المستويات والدرجــــات على ســــلم الفساد، دق الدبلوماســـيون ناقوس الخطر، وخططوا لاستبدال العامل والوالي العربي، واستقدموا فاسدين مبتدئين لخلافته، حتى لا يجرف الزلزال المصالح الامريكية.
وفي سياق استباق الاحداث يحرص الدبلوماسيون الامريكيون على فتح القنوات مع المعارضين العرب والغاضبين وكل الحركات الجنينية التي تعتمل داخل التربة العربية، حتى لا تداهمها العواصف والزوابع التي انتجتها الممارسات الاستبدادية لعمالها وولاتها العرب المعينين بقانون غير مكتوب وبدستور المصالح الامريكية المحكومة بمقولة ونستون تشرشل: "لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة وانما مصالح دائمة"، وهي مصالح امريكية اسرائيلية بالضرورة، وهو ما يعني انه في المقاربة الامريكية الواقعية حتى النخاع لا يوجد للولايات المتحدة اصدقاء، وانما حلفاء عرضيون وظرفيون يتم توظيفهم كالدمى، وحين تنتهي صلاحياتهم المبرمجة اصلا يتم الالقاء بهم بعيدا في مزابل المصالح مثل اي منديل 'كلينيكس' وهو منديل لا يستعمل الا مرة واحدة.
وتتوفر امريكا على عدة اوراق تستعملها حين يعم الفساد البر والبحر والاجواء ويهدد دوام نعمتها، فمرة تدعو نفاقا الى اقرار ديمقراطية جديدة لشرق اوسط قديم، بل مفرط في القدم. ومرة تدعو الى تحريك آليات "الفوضى الخلاقة" حتى تتمكن من كنس الانظمة التي ادمنت على الفساد وافرطت فيه واطلقت يدها فيه لدرجة تهدد المصالح الامريكية، ومرة توصي باعادة النظر، بل والغاء بعض سور وآيات قرآنية، او بالمراجعة الجذرية للكتب المدرسية وتنقيحها من اي عداء معلن او ضمني للغزاة والمحتلين وناهبي الارض العربية من امريكيين واسرائيليين، ومرة يحمل السفير الامريكي المعتمد في العاصمة العربية دفتر شيكاته ويتوجه الى الاحياء العربية الهامشية التي يرى انها تنتج "الارهابيين" في نظره فيمول انشطة رياضية و'ثقافية'، ويوزع الكتب والملابس ابتغاء مرضاة شباب لا يرى في امريكا وحلفائها الموضوعيين سوى منبع لكل الشرور.
ما كشفت عنه برقيات "ويكي ـ كلينيكس" ما هو الا غيض من فيض، فهي كشفت عن الدخان المتصاعد من الصرح العربي المتهالك ولم تكشف عن الحريق واسبابه ودواعيه.
ومن خلال ويكي ـ كلينيكس لم تدع امريكا الى محاربة الفساد والمفسدين العرب، بل نبهت الى ضرورة تطويق الفساد في حدود 'معقولة'، كما لو ان الفساد يعترف بالحدود، وكما لو ان المفسدين الذين نهبوا الارض وثروات الشعوب في البر وتحت الارض وفي اعماق البحار، يمكن لهم ان يحصلوا على حبوب امريكية للحد من الشهية النهمة، وتخسيس اوزانهم الثخينة واذابة الشحوم الزائدة...
فلا ويكيليكس الانترنيتي ينفع في ذلك، ولا مناديل كلينيكس الرهيفة كفيلة باصلاح ما افسد العطار العربي ودهره الرديء.
لا يتعلق الامر في حالة ويكليكيس بما قد نسميه اسرارا خطيرة وهي ليست خطيرة، فالاسرار الحقيقية لازالت مطمورة في الاعماق تحرسها امريكا، لكن الجديد فيها ان اولياء نعمة الحكام العرب هم من سربوا ما سربوا، لا ينظرون ان يراجع هؤلاء الحكام مواقفهم، بل سيتقربون اكثر من واشنطن حتى لا تفضح اسرارهم الحقيقية.
ما نستنتجه من وثائق ويكيليكس ان هذه الانظمة تنصب العداء لشعوبها وتركز عداءها ضد تركيا وايران، وتقيم التماثيل لاسرائيل كنموذج تصونه وترعاه.
وقد يتساءل بعض الحكام العرب لماذا لم تسرب ويكيليكس وثائق اسرائيل، لكن هل قام هؤلاء العرب بأي عمل استهدف الكيان الصهيوني أصلا؟
الواقع ان الحكام العرب الذين حددوا الولاء لامريكا والطاعة لاسرائيل يطلبون من واشنطن ألا تتدخل في شؤون فسادهم والا يحاولوا ثني العائلات التي تحكم بلدانا وتورث شعوبها وخيراتها لابنائها عن الاستمرار في ممارسة السلطة العشائرية. كما يطالبون بألا تتدخل امريكا في التزوير الشفاف للانتخابات الديمقراطية الصورية، مضيفين ان شعارهم هو "الثروة حتى النصر" لا "الثورة حتى النصر".
ويزعم هؤلاء ان امريكا لا تريد ان تحافظ على مصالحها، اذ ان مصلحة امريكا تكمن في توريث الحكم ورفض النمط الديمقراطي واستمرار الاستبداد.
والخلاصة ان الحكام العرب لن يتعظوا من درس ويكيليكس وسيواصلون مقاطعة شعوبهم، ذلك ان أمن الحاكم فوق أمن الاوطان والشعوب في نظرهم. ...
أقرأ المزيد
0
كأن القتل رياضة وطنية أمريكية تضاهي شعبيتُها شعبيةَ البيزبول؟
فجأة ودون سابق إنذار، احتلت ذبابة وقصتها الحزينة النشرات الرئيسية في القنوات التلفزية العالمية والصفحات الأولى للجرائد وأصبحت مادة مغرية في أهم المواقع على الانترنت.
ولعل هذه الذبابة ستدخل التاريخ من أبوابه الواسعة، فقط لأنها ناوشت أو حاولت أن تمازح رئيس أكبر دولة في العالم، فكان مصيرها المحتوم هو الموت على يد الرئيس الـ44 للولايات المتحدة الأمريكية وهو المشهور بأنه شخص لطيف ومسالم لا يقتل ذبابة، إلى أن تبخرَّ هذا الوهم بعد أن وقع ما وقع في أحد مكاتب البيت الأبيض حين كان الرئيس باراك أوباما منهمكا في الإدلاء بتصريح لقناة ‘سي إنْ بِي سِي’ الأمريكية، فإذا بـ ‘دبانة’ ـ لم يعرف أحد من أين جاءت وماذا كانت أهدافها بالضبط ـ تُصر على التحليق بإلحاح شديد حول وجه الرئيس رغم محاولاته اليائسة من أجل إبعاد ‘تزَنْزينَتِها’ عنه.
والملاحظ أن الرئيس أوباما التزم بالقواعد التي تفرضها اتفاقيات جنيف حول الحروب، إذ وجَه إليها، في البداية، إنذاراً شفويا وخاطبها بالقول: ‘أخرجي من هنا’، لكن الذبابة ‘العَدوّة’ لم تمتثل لهذا التحذير وواصلت غاراتها، فما كان من أوباما، الذي كان يعطي الانطباع بأنه رجل حوار، سوى أن قطع حبل الحوار التلفزي لكي يتفرغ تماما للذبابة، حيث نصب لها فخّا بعد أن تظاهر بأنه نسيَها ولم يعد يطالبها بمغادرة المكان، والنتيجة كانت أن الذبابة الساذجة هبطت بسلام فوق يده اليسرى.
...
أقرأ المزيد
0
تابع الدولية